فصل: تفسير الآيات (26- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (26- 30):

{يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)}.
التفسير:
وإذ هبط الإنسان أو قل صعد، وأخذ مكانه على هذه لأرض، فقد كان عليه أن يتعرف على الدستور الذي يسوس به خلافة اللّه في الأرض.
وها هو ذا يتلقى من السماء المواد الأولى لهذا الدستور.
1- {يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
فأول ما ينظر فيه هذا الخليفة، هو أن ينظر إلى نفسه، وأن يخرج من عالم الحيوان العاري، إلى هذا الإنسان الذي ينبغى أن يبدأ بستر عورته أولا، ثم يتجمل بما يقدر عليه مما بين يديه، من هذا الخير الكثير الذي بثّه اللّه في الأرض.. ثانيا.
وإذن فعلى الإنسان أن ينسج له من خيوط هذه الموجودات المبثوثة في الأرض، حياة غير حياة الحيوان، وأن يصنع بعقله وبيده وجودا كريما، وبهذا يحق له أن يجلس على كرسى الخلافة، ويمسك بيده، زمام الكائنات التي تعيش معه.
والريشهو الزينة، وكذلك الرياش، وهو شيء إضافى، فوق الحاجة الضرورية، ولهذا جاء بعد اللباس الساتر للعورة.. فهو مأخوذ من الريش الذي يكسو الطائر ويزينه.
ثم بعد أن يأخذ الإنسان لجسده ما يستره ويجمّله، عليه أن يحصّل لكيانه الداخلى، من المشاعر والأحاسيس والوجدانات والمدركات- ما يستره ويجمّله، وذلك هو لباس التقوى، وهو خير لباس يتزيا به الإنسان، ويتجمل.
وفى قوله تعالى: {وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ} إشارة إلى أن هذا اللباس إنما هو مما ينسجه الإنسان من ذات نفسه، إذ لا وجود له في العالم الخارجي، ولهذا لم يعطفه اللّه سبحانه وتعالى على قوله: {أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ} حيث مادة هذا اللباس هي مما يراه الإنسان ويلمسه بحواسه في النبات أو الحيوان، على حين أن مادة التقوى شيء مطوى في ضمير الإنسان، مدسوس في كيانه.
وقوله تعالى: {ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ} لإشارة هنا إلى هذه النعم التي يجمّل بها الإنسان وجوده الخارجي ولداخلى، أي الجسدى والروحي معا، وهذه النعم هي من الآيات الدالة على قدرة اللّه، الناطقة بجلاله وعظمته.. بها يصبح الإنسان إنسانا كريما على اللّه، عظيما في الناس.
وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} في العدول عن الخطاب من لعلكم تذكرون إلى الغيبة {لعلهم يذّكرون} إشارة إلى ما في الناس من غفلة، وأنهم وهم بمحضر من هذا المعرض الذي تعرض فيه آيات اللّه، وتتحدث فيه نعمه- هم غافلون، لا تصفى منهم الأفئدة، ولا تستيقظ منهم العقول. فلعلّ هؤلاء النائمون يستيقظون، ولعل هؤلاء الغافلون ينتبهون..!
2- والمادة الثانية من مواد هذا الدستور، هي أن يحذر أبناء آدم هذا العدوّ المبين المتربص بهم، وأن يكونوا على يقظة دائمة من أباطيله وضلالاته التي يغريهم بها، ويزينها لهم، ليفتنهم في دينهم، وليخرجهم من الإيمان باللّه والاستقامة على طاعته، إلى الشرك به، والتعدّى على حرماته، فيعيد معهم سيرته مع أبويهم اللذين أخرجهما من الجنة، بما زين لهما من ضلال، وبما أغراهما من غرور. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ...} الآية.
وفى قوله تعالى: {إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} تحذير بعد تحذير، من وساوس الشيطان ومغرياته، وأنه عدوّ خفىّ يرى الإنسان، ويرصد حركاته وسكناته، ويطلع منه على مواطن الضعف، فينفذ إليه منها.
ومن هنا كان خطره داهما، وشره مستطيرا، ومن هنا أيضا كانت حاجة الإنسان إلى اليقظة الدائمة، والمراقبة المستمرة، من هذا العدو الخفىّ المتربص، الذي لا يعرف الإنسان متى يهجم عليه، ويجعل منه صيدا يقع ليده.
وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} إشارة إلى أن الإيمان باللّه هو القلعة التي يتحصن فيها الإنسان من الشيطان، وليس عليه بعد ذلك إلّا إغلاق أبوايها وإحكام غلقها، حتى لا يكون للشيطان سبيل إليه.
أما من لا يؤمن باللّه، فهو شيطان مع الشيطان. لا يريد الشيطان منه أكثر مما هو فيه من فتنة وضلال، وهو بهذا قد سبق الشيطان إلى الغاية التي يريدها منه، ولهذا كان الشيطان وليّه، وهو تابعه.. وهذا ما يكشف عنه قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}.
قوله سبحانه: {وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}.
الخطاب هنا للضالين والمشركين، الذين إذا جاءهم من يدعوهم إلى الهدى أبوا أن يستجيبوا له، واستمسكوا بما هم فيه من ضلال وشرك، وليس بين أيديهم من حجة على هذا الذي هم فيه إلا أن ذلك مما كان عليه آباؤهم، وأنهم على آثارهم مقتدون، وأن ذلك الذي كان عند آبائهم هو مما أمر اللّه به، لأن آباءهم لم يجيئوا بهذا من عند أنفسهم، بل هو مما شرع اللّه لهم.. هكذا يقولون، وهكذا يفترون.. وقد ردّ اللّه عليهم هذا الافتراء بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}.
وفى هذا لردّ حكم على ما هم فيه بأنه فاحشة، لا يخفى على عاقل أمرها من السوء والفحش، ومحال على اللّه أن يأمر بالفاحشة.. وإذن فهذا الضلال الذي هم فيه ليس من اللّه قطعا، بحكم العقل، ولو كان هؤلاء على شيء من العقل لما قالوا على اللّه هذا القول المنكر: {وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها}، ولهذا كان هذا الإنكار عليهم والفضح لجهلهم بقوله تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}.
إنهم لا يعلمون ما للّه من جلال وكمال، ولو كانوا يعلمون شيئا من هذا لما نسبوا إلى اللّه الأمر بهذه المنكرات، فإن الكامل لا يصدر منه هذا النقص المعيب.
قوله سبحانه: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} هو بيان لما أمر به من طيب وجميل. فقد أمر اللّه بالقسط، وهو العدل، وإقامة موازين الحق، حتى لا يظلم الناس بعضهم بعضا، ولا يعتدى بعضهم على حق بعض.. الأمر الذي لو استقام عليه الناس لا استقام أمرهم جميعا، ولجرت سفينة الحياة بهم في ريح رخاء.. ومما أمر اللّه سبحانه به بعد هذا، إقامة الصلاة، إذ هي أكثر العبادات توثيقا للصلة بين العبد وربّه. حيث يمكن أن يأتيها كل إنسان.. فقير أو غنى، كبير أو صغير، في أي وقت، وعلى أي حال.. ومن هنا كان من الإمكان أن يكون العبد على صلة دائمة، مع اللّه، بالصّلاة، في الليل والنهار، في السّر والجهر، خاليا مع نفسه، أو منتظما في جماعة.
وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} معطوف على ما قبله: {أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}.
إذ كان معنى: {أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} أقسطوا.
فصحّ أن يعطف عليه: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}.
أي أفسطوا، وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد.
وإقامة الوجوه عند كل مسجد، إخلاص العبادة للّه، وإقامة الوجوه إليه وحده، دون التفات إلى أحد غيره، وهذا هو الذي يعطى الصلاة ثمرتها المطلوبة منها، إذا هي أقيمت على هذا الوجه، من الولاء للّه، واستحضار القلب لجلاله وعظمته.
وقوله تعالى: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} معطوف على {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}.
والدعاء صلاة، وعبادة، بل هو مخّ العبادة، كما يقول العابدون.. إذ هو التطبيق العملي للإيمان باللّه، والإقرار بالعبودية له، وتعلق الرجاء فيه، والتماس الخير منه وحده، والانقطاع عما سواه.. وهذا هو التوحيد الخالص، والإيمان المصفّى، ولهذا اقترن الدعاء بالصلاة، وجاء بعدها، ليكون التطبيق العملىّ، لما تركت الصلاة في نفس المصلّى من ولاء للّه، وقرب منه.
وقوله سبحانه: {كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} تذكير بالبعث والجزاء والحساب، حتى يعمل الإنسان لهذا اليوم حسابا، وحتى يكون هذا الحساب دافعا قويّا يدفعه إلى العمل.. كما أن في هذا تقريرا للبعث، وأنه أمر ممكن، وإذا وقع في نظر بعض الغافلين أنه مستحيل، فلينظروا إلى المصدر الذي جاءوا منه، وليذكروا أنهم كانوا بعد أن لم يكونوا شيئا، وأن إعادة الكائن إلى ما كان عليه، أيسر- في تقديرنا نحن البشر- من خلق الكائن من العدم.
وقوله سبحانه: {فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} هو بيان للحال التي يعود عليها الناس يوم القيامة، إنهم يعودون فريقين: فريقا هداه اللّه ووفقه للإيمان والعمل الصالح، وفريقا ضلّوا، وأغواهم الشيطان.
{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}.
وهكذا كل ضالّ، يزيّن له ضلاله الفتنة والغواية، ويريه أنه على الصراط المستقيم، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [8: فاطر].

.تفسير الآيات (31- 34):

{يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34)}.
التفسير:
فى الآيات السابقة جاء قوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ} ليلفت الناس- وهم في أول لقائهم بهذه الحياة- إلى ما في الأرض وما عليها من خير كثير، بثّه اللّه فيها، وأن أول ما ينبغى أن يحصّلوه من هذا الخير، أن يستروا سوآتهم، ليخرجوا من عالم الحيوان، وليكونوا الإنسان الذي جعله اللّه خليفة له في الأرض. ثم ليتجملوا بعد هذا، ويتزينوا بما شاءوا، ثم ليستروا كيانهم الداخلى ويجملوه بالتقوى.
وفى هذه الآيات يدعو اللّه النّاس- بعد أن استوفوا حظوظهم من زينة الحياة، وصار إلى أيديهم الكثير منها- يدعوهم إلى ألّا تكون هذه الزينة التي اتخذوها حلى يتحلّون بها في أوقات لهوهم، أو في محافلهم وأنديتهم، وحسب، وإنما الذي ينبغى أن يتزينوا له، ويحتفوا بلقائه قبل كل شيء، هو بيت اللّه الذي يقفون فيه بين يدى اللّه، يناجونه ويوجهون وجوههم إليه.
فهذا الاحتفاء ببيوت اللّه، وهذا الإعداد والتجمّل للقاء اللّه فيها، هو مما يقيم في كيان المؤمن مشاعر التوقير والإجلال لهذا اللقاء، وممّا يهيئ كيان الإنسان الداخلى لمناجاة ربّه، بعد أن تطهّر وتزيّن لهذا اللقاء العظيم.
وقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
هو دعوة إلى أن يأخذ الناس حظّهم من طيبات الحياة، وأن يذوقوا من نعم اللّه التي وضعها بين أيديهم، ولكن في غير إسراف، بل في قصد واعتدال، فإن الإسراف يفسد النعمة، ويفقدها طعمها الطيّب، حين يمتلئ الإنسان منها، ويلحّ على جسده بها.. إنها لا تلبث- حينئذ- أن تتحول إلى شيء تزهد فيه النفس، بل وتعافه. وهذا هو بعض الحكمة من النهى عن الإسراف.
وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ} هو إغراء بالتنعم بنعم اللّه، والتجمل بها، وأخذ حاجة النفس منها.. ثم هو إنكار على من يأخذون على أنفسهم أو على الناس الطريق إلى نعم اللّه، ويزهدونهم فيها، أو يحرمونهم منها.. فلمن إذن هذه النعم؟
واللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.
ويقول سبحانه هنا في هذه الآية: {هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ} أي زينة اللّه هذه التي أخرج لعباده، وهذه الطيبات من الرزق، هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا، ينعمون بها، ويرون فضل اللّه عليهم فيها، فيزداد حمدهم له، ويقوى إيمانهم به.
ثم إن هذه النعم سينعمون بها يوم القيامة، تأتيهم من غير أن يبذلوا لها جهدا، خالصة من كل شائبة مما كان يشوبها في الدنيا.. فلا تزهد فيها نفس من شبع، ولا تملّها عين من نظر.. {كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً}.
وتخصيص المؤمنين بالذكر هنا: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ} إشارة إلى أن المؤمنين هم الذين يتعرفون على الطيبات من الرزق وينعمون بها، أما غير المؤمنين فلا يفرّقون بين طيب وخبيث، إذ لا دين لهم يحجزهم عن الخبيث، ويحول بينهم وبينه، فالطيب والخبيث على سواء عندهم.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}.
هذه هي المحرمات التي حرّمها اللّه على عباده، وكلها خبائث، تفسد الطيّب إذا دخلت عليه.
والفواحش هنا، يراد بها الزّنا خاصّة، وما اتصل به من شهوة الفرج.
والإثم: المحرّمات التي حرّمها اللّه، من مأكولات، والتي توقع مقترفها في عداد الآثمين.
والبغي بغير الحق: العدوان على حدود اللّه، والتعدّى على حقوق العباد.
كالقتل، والسرقة، والخيانة للأمانة، وغيرها.
وفى وصف البغي {بغير الحق} على أن البغي لا يكون إلا بغير الحقّ أبدا- إشارة إلى هذا الوصف الملازم له، وتذكير به، وأنه عمل مجاف للحق، خارج عليه.
وقوله تعالى: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً} هو مما نهى اللّه عنه، بل هو أول المنهيات، لأن الشرك باللّه رأس الكبائر، حيث لا يقبل عمل من مشرك.
وأخّر النهى عن الشرك هنا لأن الخطاب في مواجهة المؤمنين الذين دعوا إلى أخذ زينتهم عند كل مسجد، وإلى عدم التحرّج من أن ينالوا من طيبات ما أخرج اللّه لعباده من رزق، ثم بيّن اللّه سبحانه وتعالى لهم بعد ذلك ما حرّمه عليهم بعد أن رفع الحظر عن جميع المطعومات، ودعاهم إلى التمتع بها- فكان أول هذه المحرمات الفواحش، وهى شهوة غالبة من الشهوات المتمكنة في الإنسان، والتي كثيرا ما تفسد عليه دينه، ثم الإثم والبغي بغير الحق، وهما آفتان من الآفات المتسلطة على الناس في الحياة، حيث تدفع أهواء النفس وشهواتها بالناس إلى مقارفة الآثام، وإلى عدوان بعضهم على بعض، لإشباع تلك الشهوات، واسترضاء هذه الأهواء.. ثم الشرك باللّه، والمراد هنا هو ليس الشرك الصريح، القائم على عبادة غير اللّه، والإقرار بألوهية إله أو آلهة غيره، فذلك كفر باللّه، لا يعدّ صاحبه في المؤمنين أبدا، وإنما المراد بالشرك هنا الشرك الخفىّ الذي يتدسّس إلى الإنسان من غير أن يشعر به، وذلك كالاستدلال للناس استذلالا يقرب من العبادة، والنظر إليهم نظرة من يملكون التصرف في ملك اللّه، بما صار إلى أيديهم من سلطان أو بسطة في المال وسعة في الرزق، وكالاستظلال بظلّ ولىّ أو دعىّ، يدّعى الولاية أو تدّعى له لولاية، حيث يذهل المستظل به، عن إقامة وجهه خالصا للّه.. فهذا ونحوه هو من قبيل الشرك باللّه، وإن لم يكن شركا صريحا.. ولهذا وصف الشرك هنا بقوله تعالى: {ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً} أي هو شرك لا حجة عليه، ولا دليل بين يديه، وإنما هو وهم وضلال.. وكل شرك لا حجة له، ولا دليل عليه، وإنما وصف الشرك هنا هذا الوصف ليلفت المؤمنين إليه، وليحذروا منه، لأنه شرك خفىّ، والمؤمن حريص على أن يتجنب الشرك كلّه، جليّه وخفيّه، فإذا قيل له احذر الشرك الذي لا حجة، له جعل يقلب وجوه الأمور التي بين يديه إذ ربما يكون فيها ما هو من هذا الشرك الخفي، وحاول أن يزن هؤلاء الأشخاص الذين استذل لهم، أو استظل بهم، بميزان الحق والعقل، وهل لهم مع اللّه ما يملكون به ضرّ أو نفعا، وهنا ينكشف له الأمر، ويرى أن كل شيء للّه، وأنه ليس لأى مخلوق- مهما بلغ من جاه أو سلطان- سبيل إلى شيء من ملك اللّه.
أما المشركون شركا صريحا فإنهم يجعلون لمن أشركوا به سلطانا، لأنهم لا يعرفون اللّه حق معرفته، ولا يقدرونه حق قدره.
وقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} هو إلفات إلى ماللّه سبحانه وتعالى من كمال مطلق في صفاته، وأفعاله، وأن على المؤمن باللّه أن يتعرّف إلى اللّه سبحانه، وأن يعرفه حق معرفته، فإن من شأن هذا التعرف، وتلك المعرفة أن يصلاه باللّه، وأن يعزلاه عن مظان الشرك الخفي به، فلا يجعل لمخلوق مكانا مع اللّه في قلبه.. وبهذا الإيمان يستغنى باللّه، ويستعلى بوجوده عن الاستذلال أو الاستظلال بأى مخلوق، وإن عظم قدرا، وعلا في الناس شأنا.
والقول على اللّه بغير علم، هو من قبيل الفهم الخاطئ للّه، ومن هما يجيء الالتفات إلى غيره، والاعتماد على سواه.